عشرون عاما كاملة انقضت على رحيل يوسف إدريس عن عالمنا في الأول من أغسطس عام 1991 ، رحل عن أربعة وستين عاما فقط ، بعد أن ملأ الدنيا قصصا وحكايات ومسرحيات ومقالات ، وبرحيل يوسف إدريس تحطم الناي العبقري الذي عزف عليه الفلاحون المصريون وفقراء المدن أشجانهم . الفلاحون الذين ظهروا بتردد للمرة الأولي عند أعتاب توفيق الحكيم في روايته عودة الروح ، وفي يوميات نائب في الأرياف ، ثم في كتابه عدالة وفن ، ثم عادوا إلي الظهور في ضيافة يحي حقي ، وطه حسين ، إلي أن فتح لهم يوسف إدريس باب روحه على مصراعيه فدخلوا وجلسوا وأكلوا وشربوا وقالوا ما يشاءون لقلمه وعقله ، وعندما انتزع الموت صاحب البيت من بينهم ، جمع الفلاحون حكاياتهم ومواويلهم وغادروا المكان . ولم يعد يلوح من الفلاحين بعد ذلك سوى أطياف تهرول بشحوب فوق جسر الأدب الجديد .
يتذكر الجميع يوسف إدريس : الفلاح الطويل القامة بوجهه الصريح ونافورة الحماسة التي تعلو بالأفكار الجديدة ، سريع التوهج ، تمتلأ أحاديثه بالصور والإشارات ، وتتدفق منه الموهبة وحب الحياة .
ويعرف الجميع الآن – أكثر من أي وقت مضي – قيمة ذلك الكاتب العملاق، وفداحة الخسارة التي أصابتنا بموته المبكر . ويذكرنا رحيل يوسف إدريس بما قاله أنطون تشيخوف ذات مرة من أن الموت يوارى نصف الفنان فقط ، أما نصفه الآخر فيظل حيا في إبداعه الذي تركه لنا .
ولد يوسف إدريس في 19 مايو 1927 بإحدى قري الشرقية . وتفتح وعيه على الملاحم الشعبية وحكايات أبي زيد الهلالي والزيناتي خليفة وكانت سلسلة " روايات الجيب " حلقة ثانية من ثقافته خلال سنوات المدرسة . ويحكى يوسف إدريس نفسه أنه كان يقرأ تلك الروايات على ظهر حمار أثناء عودته من المدرسة إلى القرية حتى أنه انهمك ذات يوم في القراءة إلى درجة أن قريته مرت دون أن يلحظها . وعام 1945 التحق وهو في الثامنة عشرة بكلية الطب ، لكن صلته لم تنقطع لا بقريته ولا بالفلاحين . وفي القاهرة أخذ يطلع على الأدب العالمي في ترجماته المتاحة وينهل من الأدب العربي الكلاسيكي . وبعد أن أنهي يوسف إدريس كلية الطب عمل في مستشفى قصر العيني ، وعرف وهو داخل غرفة العمليات بقيام ثورة يوليو 1952.
ولاشك أن إدريس تأثر بكتاب القصة العظام مثل موباسان وتشيخوف وغيرهما ، كما تأثر بمن سبقوه مثل طاهر لاشين ومحمد تيمور ، لكن الحكيم وروايته عودة الروح وكذلك يوميات نائب في الأرياف ترك أثرا خاصا في نفس ووعي إدريس . وفي سنوات كلية الطب أصبح جزءا من الوسط الطلابي الذي كان يغلي بمختلف التيارات السياسية والفكرية ضد الأوضاع القائمة عشية الثورة ، وتخير إدريس التيار الماركسي مع مشاركته النشطة في مختلف الحلقات والتجمعات الأدبية بالجامعة. وفي 1950 ظهرت أولى قصص إدريس في جريدة المصري الوفدية ، حين قدمه عبد الرحمن الخميسي على صفحاتها للمرة الأولى ، وبظهور مجموعته القصصية الأولى " ارخص ليالي " في أغسطس 1954 ذاع اسم يوسف إدريس بسرعة البرق . وكان السر في ذلك أن القصص التي ضمتها تلك المجموعة لم تكن فقط مكتملة النضج من الناحية الفنية ، بل وكانت فتحا جديدا في الأدب المصري والعربي بما انطوت عليه من رؤية جديدة مغايرة للعالم والإنسان . ومع أنه كانت هناك بوادر لشخصية الفلاح المصري في رواية الأرض للشرقاوي وغيرها ، لكن ذلك الفلاح - بظهور شخصية " عبد الكريم " في أرخص ليالي - دخل بقوة على يدي يوسف إدريس إلى الأدب كشخصية فنية واقعية متعددة الجوانب بعيدة كل البعد عن الطابع المثالي الذي أسبغه عليها الكتاب من قبل .
فى السنوات اللاحقة على الثورة كان إدريس يكتب بسرعة وتدفق وسهولة معجزة وكانت الأفكار والموضوعات تلاحقه بإلهام لا ينقطع ، وكان الكثير من تلك الموضوعات مستمدا من علاقة إدريس التي لم تنقطع بالقرية ، ومن تجربته كطبيب في قصر العيني ، وتجربته داخل الجامعة ، وقدرته الثاقبة على ملاحظة الفقراء في قاع المدينة . وكانت الخمسينات هي فترة الآمال التي قالت عنها لطيفة الزيات : " كنا نحس حينذاك أننا قادرون على تغيير العالم بأسره " . وكانت الواقعية النقدية توطد مواقعها في الأدب المصري مدعومة بفكرة أن الأدب والفن قادران على تغيير الحياة والمجتمع . وفي سنوات قلائل نجح يوسف إدريس في بناء صرح قصة قصيرة مصرية وعربية جديدة ، بالرغم من أن حجر الأساس في القصة القصيرة قد تم وضعه في عشرينات القرن الماضي على يدي الأخوين عيسى وشحاته عبيد ويحيي حقي وطاهر لاشين ثم محمد تيمور الذي دشن اكتمال ذلك الشكل الأدبي بقصته " في القطار" عام 1917 ، لكن ولادة القصة القصيرة لم تكن تعني بعد نموها ونضجها كما وكيفا حتى ظهر يوسف إدريس الذي قدم في عالمه القصصي بانوراما بانوراما ضخمة ومذهلة لفئات المجتمع المصري : الطالب والموظف والفلاح والعامل والمثقف والمقاتل والطبيب والمهندس وفقراء الريف والمدن من النساء والرجال . وبينما اعتادت القصة القصيرة المصرية منذ مولدها الإشارة إلي مأساة " الإنسان الصغير " قام يوسف إدريس بالإشارة بقوة إلي مأساة الواقع التي تخلق المآسي البشرية الصغيرة ، وغير اتجاه السؤال وطبيعته في مجموعاته " أرخص ليالي " و" حادثة شرف " و" أليس كذلك؟ " . وفي رواية " دعاء الكروان " طه حسين الصادرة عام 1934 تقع هنادي الصغيرة في غرام المهندس الوسيم الأعزب المقيم بحكم عمله في الصعيد ، فتتكاتف عليها أمها وخالها ويجهز عليها بطعنة في الخلاء تفزع منها السماء . بعد نحو ربع القرن من صدور رواية طه حسين ، ينشر إدريس عام 1959 رواية " الحرام " ويبدل إدريس اتجاه السؤال، فلم يعد العقاب الذي يحل بالمرأة ناجما عن أشواق القلب المحرمة ، ولكن من وطأة الواقع الاجتماعي الذي دفع " عزيزة " للتفريط في نفسها فقط من أجل الحصول على جذر بطاطا اشتهاه زوجها عامل التراحيل المريض العاجز . الحرام عند إدريس هو الفقر والعوز ، لكن حرام طه حسين هو الحب والشوق المحظورين . وفي الخمسينات واكبت أعمال إدريس الواقع الاجتماعي الذي يفور بآمال الثورة ، فظهرت مسرحياته القصيرة البديعة " ملك القطن " ، و " جمهورية فرحات " ، و" اللحظة الحرجة " ، لكن شعوره الباطني بمقدمات نكسة 1967 وهي تختمر دفعته للسؤال عما إن كان من الممكن : " تنظيم العلاقة بين الإنسان والدولة بحيث لا يقوم المجتمع بقهر الفرد من ناحية وبحيث لا يعيش الفرد عالة على الدولة من ناحية أخري ؟ ". وجوهر السؤال الذي طرحه إدريس هو : هل يمكن الجمع بين الخبز والحرية ؟ . والواضح أن إدريس لم ير إمكانية لتحقيق ذلك الحلم ، إذ تقول " الفرافير " ( 1964) بوضوح أن خلف كل قيصر قيصرا جديدا ، وفوق كل سيد سيدا آخر ، وأن الاستبداد يمضي في دورة مغلقة أبدية بلا مخرج . وتأكدت تلك الرؤية في " المهزلة الأرضية " 1966 ، و" المخططين " 1969 التي سخرت من فكرة المساواة كمشروع قابل للتحقيق . وكان التعب يحل بالكاتب الكبير شيئا فشيئا ، ففي حوار أدلي به إدريس لمجلة روزا اليوسف عام 1967 اعترف بأنه أصبح يعد نفسه فترة طويلة لكي يدخل إلي حالة الكتابة ، إما بالاستماع للموسيقي أو مطالعة كتاب ، أو حتى بكتابة خطابات لبعض الأصدقاء أو الأقرباء ، وأنه – إذا بدأ الكتابة – راح يدخن دون توقف ويشرب عددا لا يحصي من فناجين القهوة. وفى السنوات اللاحقة تضاعفت هموم الكاتب الكبير ، وأرقه المرض ، وتضاءلت قدرته السحرية على الكتابة بسهولة وتدفق ، وبالرغم من ذلك توالى صدور أعماله مثل : مجموعة " بيت من لحم " و" مسحوق الهمس " وغيرها في محاولة لاكتشاف وسائل تعبيرية جديدة . وعلى مدى سنوات إبداعه كلها ، لم يكف يوسف إدريس عن اقتحام أهوال المعارك الاجتماعية ، وأذكر أنه حين حدثه البعض عن أهمية تقليص عمله الصحفي لصالح الأدب أنه كتب قائلا : " كيف أكتب ومن حولي ستائر البيت تحترق ؟ " .
لقد أتاحت لي الظروف أن ألتقي بيوسف إدريس مرات عديدة ، ومازلت أذكر بالعرفان أنه منحني شرف تقديمي ككاتب قصة في مجلة الكاتب عام 1967 ، وفي تلك اللقاءات العابرة كنت أشعر أنني أمام إنسان كبير يريد أن يعطي كل خبراته ومشاريعه وأفكاره للآخرين وللحياة . وقد قام إدريس بدور كبير في تقديم عدد كبير من الكتاب اللامعين الآن ، وفي دعمهم ، وفي الدفاع عنهم . وحينما تحل ذكرى رحيله أشعر بكل قلبي أنه لم يرحل عنا ، لكنه يرحل إلينا ، كاتبا عظيما ، شكل ومازال فتحا فكريا وفنيا وإنسانيا يواصل تأثيره بموهبة شربت ألوانها من ينابيع شعبية وديمقراطية عميقة . وما من شيء يمكن تقديمه الآن لذلك الكاتب العملاق أهم من إعادة طبع أعماله كاملة طبعة رخيصة تصبح في متناول الجميع ليعلموا من هو " يوسف إدريس " .